الأربعاء، 23 سبتمبر 2015

النقل الديداكتيكي

النقل الديداكتيكي
Transposition didactique
يحتل مفهوم  النقل الديداكتيكي موقعا مركزيا في ديداكتيك العلوم تحديدا، و لقد برز هذا المصطلح إلى الوجود لأول مرة في حقل  ديداكتيك  الرياضيات مع Yves  Chevallard،  و لم يلبث  أن استثمر لاحقا في مجال البيولوجيا من طرف M.Develay و G.Rumelhard خلال دراستهما لموضوع الذاكرة و مفاهيم علم الوراثة.
مفهوم النقل الديداكتيكي : يعرف Arsac. G النقل الديداكتيكي ب: " مجموع التحولات التي تطرأ على معرفة معينة في مجالها العالم ( Savoir Savant ) من أجل تحويلها إلى معرفة تعليمية قابلة للتدريسأما Y Chevallard. فيرى أنه : " هو العمل الذي نقوم به عندما نحول معرفة عالمة  ( Savoir Savant ) إلى معرفة قابلة للتدريس مع مقاربة ما يحدث للمعرفة العالمة أثناء هذه العملية ." وإجمالا فالنقل الديداكتيكي نشاط اختزالي و عمل انتقائي يهدف تحويل المعرفة من مجالها العالم وفق إنتاجها الطبيعي، إلى المجال التعليمي المدرسي حسب شروط و مقاييس خاصة من مراعاة للتغيرات على مستوى الشكل و المضمون دلاليا و ابستمولوجيا و سيكولوجيا ( الفصل عن السياق الذي أتت فيه…)
ومن خلال هذه التعاريف  يمكن التمييز بين :
المعرفة العالمة : و هي المعرفة المنتجة من طرف المختصين و الباحثين و تتضمن مفاهيم و معارف مجردة يستحيل إدراكها من طرف التلميذ.
المعرفة اللازم/المراد تدريسها: تتمثل في البرامج  الرسمية المسطرة، و هي في مجموعها مستقاة من المعرفة العالمة.
المعرفة المدرسة : تتمثل فيما يقدمه المدرس لتلامذته عبر وضعيات ديداكتيكية معينة و وسائل تعليمية محددة مما يعكس المنهاج الدراسي الفعلي.
مستويات النقل الديداكتيكي حسب Develay  
يرى Develay أن النقل الديداكتيكي " عادة   ما يهتم بالانتقال من المعرفة العالمة إلى المعرفة المراد تدريسها دون اعتبار أن هذه الأخيرة يمكن أن ترتبط بعلاقات مع الممارسات الاجتماعية المرجعية، و هكذا يتم تغييب السياق التاريخي لبناء المفاهيم، و تعزل هذه الأخيرة عن مجال صلاحيتها ( المشكل المطروح ) كما يتم اعتبارها قارة   و جامدة و صلبة لا تقبل المناقشة . 
المعرفة العالمة  (نصوص و مقالات علمية متخصصة ) 
المعرفة المعدة للتدريس 
المعرفة المدرسة 
المعرفة المستوعبة 
باحثون، متخصصون، علماء 
واضعي البرامج 
المدرس 
التلميذ 

مظاهر النقل الديداكتيكي تتسم المعرفة العالمة بالتعقيد و التطور، يقول Develay " كل معرفة عالمة هي عبارة عن أجوبة على أسئلة مطروحة أو مقدمة، إن هذه الأسئلة تكون أحيانا عويصة أو معقدة…كما تعتبر نتيجة لبحث معين مستمر و متتابع داخل مجال محدد و فترة معينة  " . إن مهمة انتقاء و اختيار المادة التعليمية المناسبة القابلة للتدريس ليس بالأمر السهل حيث تنتج عنه تبعات تتمظهر في تغيرات  تطرأ على المعرفة العالمة و هي :
1- إزالة الشخصنة و تجريد المعرفة من الرواسب الذاتية Dépersonnalisation du savoir : إن كل إنتاج معرفي يرتبط بفترة زمنية محددة و بشخص معين ( أو أشخاص) و هذه المرحلة تقتضي من الباحث "إزالة شخصنة المعرفة بحذف التعليلات الشخصية الذاتية و الخلفيات النظرية الإيديولوجية و الأخطاء و المسالك المتعرجة و الطويلة.." فضلا عن استبعاد  الترددات و العوائق الابستمولوجية و الحوافز الشخصية المرتبطة بالباحث أو المجتمع ( فوراء البحث في مرض السيدا مثلا تكمن دوافع مادية و حوافز اجتماعية معلومة…)
2- إزالة بلورة المعرفة . Desynchrétisation du savoir : تتسم المعرفة العلمية بالتكامل و النسقية ( الوحدة ) و ينتج عن تجزيئها و تفكيكها لهدف تدريسها  تشويه لها، مما يؤثر على فهمها في شموليتها وهذا ما يعاب على المواد الدراسية.
3- إزالة سياق المعرفة / تجريدها من سياقها Décontextualisation : و تتمثل في حذف القانون الابستمولوجي للمعرفة العالمة و تغيير تاريخها  و سيرورتها الداخلية، و تجريدها من المشكل الذي كانت تعالجه فضلا عن البحث في السياق العام الذي ترمي إليه و هنا يؤكد Decoorte أن المفاهيم العلمية لا تأخذ معناها إلا بداخل سياقها و من هنا تتجلى أهمية اعتماد تاريخ العلوم حتى يدرك المستهدفون وظيفة العلم و كيفية تطور المعرفة.
4- التبرمج Programmabilité du savoir: يستوجب بناء مقرر دراسي خاص، مراعاة ملائمة مستويات صياغة المفاهيم للمراحل النفسية و النمو المعرفي للمستهدفين على مستوى السن و الزمن. يرى Arsac أن " المعرفة المدرسة مبنينة و مقدمة  وفق تطور الزمن، و نعني بالتطور داخل الزمن الوقت الأساسي للتعليم و التحصيل، و إذا لم يتحقق التعلم المحدد لسن معينة فنستنتج إما فشل التلميذ أو المدرس، أو بصيغة قصوى فشل المنظومة التربوية
عمل المدرس و النقل الديداكتيكي : إن عملية النقل الديداكتيكي تسعى إلى دمج المفاهيم و المعارف العالمة في حقل المعرفة المدرسية، إلا أنه  ينبغي مراعاة الممارسات الاجتماعية المرجعية ( حاجيات، قيم…) و اقتراح أنشطة تعليمية منبثقة من الوسط  السوسيوثقافي للمستهدفين، إن عمل المدرس  ينحصر في تحويل المعرفة المعدة للتدريس إلى معرفة مدرسية موازاة مع عمل المتعلم و هو بذلك مطالب بتحليل المعرفة المراد تدريسها من خلال :
1)      تحديد المفاهيم الأساسية و فرز الأفاهيم و المعارف
2)      تحديد الشبكة المفاهيمية بالنسبة لكل مفهوم مدمج…(لهدف تنظيم المحتوى )
3)      مراعاة مستوى صياغة المفاهيم للفئة المستهدفة.
4)      ضبط تاريخ المفاهيم المراد تدريسها.
5)      مراعاة تمثلات التلميذ و معارفه المتناثرة غير الدقيقة و استثمارها و إعادة بنينتها من جديد.
6)      الالمام بالعوائق الابستمولوجية المتعلقة بالمفاهيم المسطرة.
7)      بلورة المعارف المنهجية على شكل كفايات و قدرات
8)      اختيار الوضعيات التعليمية الملائمة
9)      تجنب تقديم المعرفة الجاهزة المعطلة لقدرات التلاميذ و السعي إلى استدراج المتعلم للمساهمة في بناء المعرفة بنفسه من خلال تهيئ مشاكل للحل و جعلها موضوعا للتعلم و لاكتساب خبرات جديدة و هكذا يمكن الحديث عن سيرورة  إنتاجية للمعرفة و كأن التلميذ اكتشفها لأول مرة


الثلاثاء، 8 سبتمبر 2015

نظرة عن التعليم باليابان

أهم ملامح وخصائص نظام التعليم الياباني



  أولاً: المركزية واللامركزية في التعليم
تتميز اليابان بشكل عام بمركزية التعليم، أو نستطيع القول أن نظام تعليمها يغلب عليه طابع المركزية. ومن إيجابيات هذا المبدأ في التعليم توفير المساواة في التعليم ونوعيته لمختلف فئات الشعب على مستوى الدولة بغض النظر عن المقاطعة أو المحافظة التي وُلد فيها التلميذ أو الطالب، وبذلك يتم تزويد كل طفل بأساس معرفي واحد سواء كان في شمال اليابان أو جنوبها أو وسطها وبغض النظر عن الحالة الاقتصادية لهذه المنطقة، حيث تُقرر وزارة التعليم اليابانية الإطار العام للمقررات الدراسية في المواد كافة بل ويُفصَّل محتوى ومنهج كل مادة وعدد ساعات تدريسها، وبذلك يتم ضمان تدريس منهج واحد لكل فرد في الشعب في أي مدرسة وفي الوقت المحدد له. وعادة لا توجد اختلافات جوهرية تذكر بين المدارس في مختلف مناطق اليابان وكلها تتمتع بمستوى متجانس عال مع التفاوت في نوع التفوق فقط. والوزارة مسئولة عن التخطيط لتطوير العملية التعليمية على مستوى اليابان، كما تقوم بإدارة العديد من المؤسسات التربوية بما فيها الجامعات والكليات المتوسطة والفنية. ومن المعروف أن المدارس في اليابان هي التي قامت بغرس المعرفة التي ساعدت اليابان على التحول من دولة إقطاعية إلى دولة حديثة بعد عصر «ميْجى Meiji» (1868 - 1912م)، وكذلك تحول اليابان من دولة مُنْهكة تتلقى المساعدات بعد الحرب العالمية الثانية إلى دولة اقتصادية كبرى تُقدم المساعدات لمختلف الدول النامية في العالم.
ولكن في الحقيقية لا يعني ذلك أن مركزية التعليم مطلقة في اليابان فهناك قسط أيضًا من اللامركزية حيث يوجد في كل مقاطعة من مقاطعات اليابان مجلس تعليم خاص بها، ويعتبر السلطة المسئولة عن التعليم وإدارته وتنفيذه في هذه المقاطعة. ويتكون مجلس التعليم من خمسة أعضاء يعيّنهم رئيس المقاطعة أو المحافظ بموافقة مجلس الحكم المحلي الذي يتم تعيين أعضائه بما فيهم رئيس المقاطعة من قِبَل سكان المقاطعة. ويقوم هذا المجلس باختيار الكتب المناسبة لمقاطعته من بين الكتب المقررة التي عادة ما يقوم القطاع الخاص بطباعتها، ولكن بالطبع بعد الحصول على موافقة من وزارة التعليم عليها. ويقوم هذا المجلس أيضًا بإدارة شؤون العاملين بما في ذلك تعيين ونقل المعلمين من مدرسة لأخرى، كما يقوم بالإشراف على مؤسسات التعليم الإقليمية وتقديم النصح لها.
كما أن المعلمين بالرغم من المركزية في الإشراف عليهم، إلا أنهم يتمتعون أيضًا بقسط من الحرية بصفتهم من هيئة صُناع القرار بالمدرسة وعلى رأسهم مدير المدرسة. وهم يجتمعون في ربيع كل عام لمناقشة وتقرير الأغراض التربوية للمدرسة، والتخطيط لجدول النشاط المدرسي لتحقيق تلك الأغراض التربوية وإعداد ذلك في كتيب كل عام. كما يقوم المعلمون كذلك بعقد حلقات بحث أو «سيمنار» كل ثلاثة أشهر لإلقاء البحوث والنقاش حول نظريات التعلم ومشاكل العملية التعليمية. وهم يقومون بإدارة مدارسهم دون ضغط ملزم من جانب الوزارة وذلك تحت ظل سلطة اتحادهم. ولذلك يشعر المعلمون في اليابان بأهميتهم في صنع القرار لأنهم ليسوا مجرد موظفين تابعين لوزارة التعليم.
ويبدو أن مبدأ التمازج والتوازن بين المركزية واللامركزية يتلاءم مع نظام التعليم الياباني، ويعكس طبيعة التفكير اليابانية في المزج بين الثقافات والقديم والجديد. فالمركزية كانت موجودة قبل فرض قوات الحلفاء وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأمريكية مبدأ اللامركزية وغيرها من الإصلاحات على نظام التعليم في اليابان بعد هزيمة اليابان في الحرب العالمية الثانية. ولكن بعد أن استعادت اليابان سيادتها في عام 1952م، قامت بإلغاء بعض الإصلاحات التي فُرضت عليها ولم تكن مناسبة لها ومنها مبدأ اللامركزية.

  ثانياً: روح الجماعة والعمل الجماعي والنظام والمسؤولية
يركز النظام الياباني للتعليم على تنمية الشعور بالجماعة والمسؤولية لدى التلاميذ والطلاب تجاه المجتمع بادئًا بالبيئة المدرسية المحيطة بهم، مثل المحافظة على المباني الدراسية والأدوات التعليمية والأثاث المدرسي وغير ذلك. فمن المعروف عن المدارس اليابانية المحافظة على نظافة المدرسة، فأول شيء يُدهش زائر المدرسة اليابانية، وجود أحذية رياضية خفيفة عند مدخل المبنى المدرسي مرتبة في خزانة أو أرفف خشبية يحمل كل حذاء اسم صاحبه، حيث يجب أن يخلع التلاميذ أحذيتهم العادية وارتداء هذه الأحذية الخفيفة النظيفة داخل مبنى المدرسة. وهذه العادة موجودة في معظم المدارس الابتدائية والمتوسطة وكثير من المدارس الثانوية أيضًا.
ومن الشائع في المدارس اليابانية أيضًا، أن يقوم التلميذ عند نهاية اليوم الدراسي بكنس وتنظيف القاعات الدراسية بل وكنس ومسح الممرات بقطع قماش مبللة. بل والأكثر من ذلك غسل دورات المياه وجمع أوراق الشجر المتساقط في فناء المدرسة وكذلك القمامة إذا وجدت!. وكثيرًا ما ينضم إليهم المدرسون في أوقات معينة لإجراء نظافة عامة سواء للمدرسة أو للأماكن العامة أيضًا مثل الحدائق العامة والشواطئ في العطلة الصيفية، وذلك بدون الشعور بالضِعة سواء من التلاميذ أو المعلمين. بالإضافة إلى ذلك يقوم الأطفال بتقديم الطعام للحيوانات أو الطيور التي تقوم المدرسة بتربيتها حيث إنه لا توجد شخصية «الحارس» أو «الفراش» في المدارس اليابانية ولا يوجد عمال نظافة، ولذا يأخذ التلاميذ والطلاب والمعلمون على عاتقهم تنظيف المدرسة وتجميل مظهرها الداخلي والخارجي، بل يمتد هذا النشاط إلى البيئة المحيطة بالمدرسة أيضًا وذلك بتعاون الجميع وفي أوقات منتظمة ومحددة.
ويتضح أوج هذه المسؤولية وروح الجماعة والتعاون والاعتماد على النفس عند تناول وجبة الطعام في المدرسة. فمن المعروف أنه لا يوجد مقاصف في المدارس اليابانية، ولكن يوجد مطبخ به أستاذة تغذية وعدد من الطاهيات حيث يتناول التلاميذ وجبات مطهية طازجة تُطهى يوميًا بالمدرسة. ويقوم التلاميذ بتقسيم أنفسهم إلى مجموعات إحداها تقوم بتهيئة القاعة الدراسية لتناول الطعام، وثانية مثلاً تقوم بإحضار الطعام من المطبخ، وثالثة تقوم بتوزيع هذا الطعام على التلاميذ بعد ارتداء قبعات وأقنعة وملابس خاصة لذلك. وهذا بلا شك يؤكد الإحساس بالمسؤولية وروح الجماعة والاعتماد على النفس والانتماء إلى المدرسة والمجتمع، كما يوفر من ناحية أخرى ميزانية كان يُفترض أن تُرصد لهذه الخدمات.
وتتجلى هذه الروح أيضًا ليس فقط في مجموعات العمل الخاصة بالطعام والنظافة، بل في المجموعات الدراسية التي يقوم بتكوينها المدرس عندما يطلب من التلاميذ أو الطلاب الإجابة عن بعض الأسئلة أو حل مسألة مثلاً في الرياضيات أو إنجاز بعض الأعمال أو الأنشطة للفصل، وبعد المشاورات الجماعية بينهم يعلن واحد من هذه المجموعة باسمها الانتهاء من هذه المهمة. على أن يعاد تشكيل هذه المجموعات من فترة لأخرى أو حسب ما تحتاج الضرورة من وقت لآخر حتى لا تتكون أحزاب أو تكتلات داخل الفصل.
وهذا النظام لايعوّد التلاميذ الروح الجماعية فحسب، بل القيادة التي تتجلى أيضًا في تعيين شخصية مراقب الفصل أو رائده والذي يقوم في وقت غياب المدرس بتهيئة الفصل وتنظيمه وحل مشكلاته بما فيها مشاكل التلاميذ بين بعضهم بعضًا. ثم أخيرًا في نهاية اليوم الدراسي يقوم التلاميذ بعقد جلسة جماعية حيث يجتمعون ويسألون أنفسهم فيما إذا كانوا قد أتموا عملهم اليوم على أكمل وجه أم لا ؟ أم أن هناك قصورًا فيما قاموا به من أعمال ؟ أو هل كانت هناك مشاكل ما ؟ وبلا شك إن هذه الطريقة في التعليم تستهدف روح الجماعة وتحمُّل المسؤولية والالتزام والقيادة، كما تشكل أيضًا قوة نفسية رادعة لكبح جماح السلوكيات الاجتماعية غير اللائقة تجاه المجتمع والغير.

  ثالثاً: الجد والاجتهاد أهم من الموهبة والذكاء
يُركز اليابانيون على مبدأ « الجد والاجتهاد أهم من الموهبة والذكاء الفطري للطفل » وهو على عكس ما هو معروف في كثير من الدول، ويتضح ذلك أيضًا من كثرة استخدامهم كثيرًا للكلمات التي تدل على الاجتهاد والمثابرة باللغة اليابانية مثل كلمة "سأبذل قصارى جهدي" (ganbarimasu)، "سأعمل بكل جدية" (isshookenmei yarimasu) فالطلاب اليابانيون يؤمنون بنصح مدرسيهم وآبائهم بأن النجاح بل والتفوق يمكن أن يتحقق بالاجتهاد وبذل الجهد وليس بالذكاء فقط، فالجميع سواسية وخلقوا بقدر من الذكاء يكفيهم. فكل شخص يستطيع استيعاب ودراسة أي شيء وفي أي مجال وتحقيق قدر كبير من النجاح فيه من خلال بذل الجهد. ولذلك يستطيع الطالب أن يدرس أي مقرر دراسي حتى ولو كان لا يتناسب مع ميوله طالما توفرت العزيمة على بذل الجهد والمثابرة. فالنجاح والتفوق لا يتحددان باختلاف الموهبة والذكاء ولكن بالاختلاف في بذل الجهد.
ويُعتبر الطلاب اليابانيون من أكثر الطلاب في العالم إقبالاً على الدراسة، لأنهم تعلموا أن السبيل للوصول إلى وظيفة مرموقة هو الاجتهاد وبذل الجهد والمثابرة للقبول بمدرسة ثانوية مرموقة ومميزة ومن ثم جامعة مرموقة أيضًا. فيجب على الطلاب خريجي المدارس المتوسطة اجتياز اختبارات صعبة للالتحاق بالمدرسة الثانوية ثم بعد ذلك الجامعة التي يقع اختيارهم عليها، حيث إن دخول المدارس الثانوية والجامعة يتوقف في المقام الأول على نتائج هذه الاختبارات وليس فقط نتائج اختبارات المدارس المتوسطة أو الثانوية.
ومن المعروف عن الطلاب اليابانيين بذل الجهد والاستعداد جيدًا لاجتياز هذه الاختبارات، يساعدهم في ذلك الأسرة أيضًا بتوفير الظروف المريحة لاستذكار دروسهم. كما يوجد الكثير من الطلاب ممن يلتحقون بمدارس تمهيدية أهلية تختص بإعدادهم لاجتياز هذه الاختبارات. وتبعًا لإحصائية لوزارة التربية والتعليم اليابانية، يوجد حوالي مليون ونصف طالب ابتدائي، ومليوني طالب مرحلة متوسطة يدرسون في هذه المدارس التمهيدية بعد نهاية اليوم الدراسي بمدارسهم النظامية لإعداد أنفسهم لاجتياز اختبارات القبول بالمدارس الثانوية.
ومن الطريف أن يؤدي الطالب اختبارًا للالتحاق بهذه المدارس التمهيدية أيضًا ! ولذلك فإن رحلة الكفاح الدراسية للطالب الياباني كلها جد ومثابرة ومشقة إلى أن يستطيع الحصول على القبول بالمدرسة الثانوية ثم الجامعة التي يختارها. وليس من الغريب أن يؤدي الطالب اختبار القبول بالمدرسة الثانوية أو الجامعة لاحقًا في أكثر من مدرسة أو جامعة في وقت واحد حتى يتسنى له القبول بإحدى المدارس أو الجامعات التي وضعها مرتبة حسب رغباته.
ومن النادر حقًا أن يرسب طالب في هذه الاختبارات، ولكن لأن المنافسة شديدة خصوصًا على الجامعات المرموقة المعروفة والتي تطلب عددًا معينًا فقط من المتقدمين حسب طاقتها الاستيعابية، فليس من الغريب أيضًا أن نجد طلابًا بعد فشلهم في القبول بالجامعة التي يرغبونها كرغبة أولى، يدرسون عامًا أو عامين في مدرسة تمهيدية للاستعداد لمحاولة القبول بنفس الجامعة مرة أخرى بالرغم من أنه يستطيع دخول جامعة أخرى ولكنها أقل درجة من التي اختارها.
وهذا يؤكد مدى المثابرة والجد في تحقيق ما يصبو إليه الطالب. ويؤكد أيضًا المقولة اليابانية الشهيرة:«yontoo goraku «أربع ساعات نجاح، خمس ساعات رسوب» أي «أربع ساعات نوم تعني النجاح بينما خمس ساعات نوم تعني الرسوب» أي لتحقيق النجاح لا ينبغي النوم أكثر من أربع ساعات في اليوم!
وفي الحقيقة هذا التكالب على الجامعات الكبرى وبخاصة الوطنية منها، يرجع إلى أن القبول بإحدى هذه الجامعات يؤمّن مستقبل الطالب في الحصول على وظيفة مرموقة. فمن المعروف مثلاً أن جامعة «طوكيو» تقوم بتخريج رجال الوظائف البيروقراطية العليا، وجامعة «واسيدا - waseda» تقوم بتخريج السياسيين والصحفيين، وجامعة «كيْيو - keiyoo» تقوم بتخريج رجال الأعمال التنفيذيين وهكذا.
ولذلك فقبول الطالب في إحدى هذه الجامعات الكبرى يحدد مسار مستقبله بعد تخرجه. ومن المعتاد أيضًا أن يلتحق خريجو هذه الجامعات بالشركات الكبرى والهيئات الحكومية التي توفر لهؤلاء الشباب مزيدًا من التدريب في مجال عملهم وذلك بإرسالهم في بعثات خارجية أو داخلية لمزيد من الدراسة في مجالات معينة تتعلق بمجال العمل.
ولكن بلا شك إن هذا النظام في القبول والذي يُعرف بـ «جحيم الاختبارات» يمثل الفزع الأكبر للطلاب وقمة التوتر النفسي الذي يؤدي في بعض الأحوال إلى انتحار بعض الطلاب لعدم تمكنهم من الالتحاق بالجامعة التي يرغبونها.

  رابعاً: الكم المعرفي وثقل العبء الدراسي
ومن المعروف أن نظام السنة الدراسية اليابانية يختلف عن معظم دول العالم حيث تبدأ الدراسة في الأول من شهر أبريل الميلادي وتنتهي في واحد وثلاثين مارس من العام التالي. ويعتبر عدد الأيام الدراسية وعدد الساعات في السنة أطول عددًا مقارنة بأي دولة أخرى، حيث يبدأ اليوم الدراسي عادة للطلاب من الساعة الثامنة صباحًا حتى الساعة الرابعة تقريبًا، أما المعلمون فعملهم حتى الساعة الخامسة ولكنهم يظلون في عملهم حتى السادسة والسابعة مساء. بالإضافة إلى ذلك تقل عدد العطلات التي تنقسم إلى عطلة الربيع والتي لا تزيد على عشرة أيام، وكذلك نفس المدة لعطلة بداية السنة الميلادية، ثم العطلة الصيفية التي تتراوح من أربعين يومًا حتى الشهر والنصف.
وعلاوة على ذلك يقوم طلاب المدارس بالذهاب إلى المدرسة أثناء العطلة الصيفية لبعض الأيام تبعًا لبرنامج محدد مسبقًا، بالإضافة إلى تكليفهم بالقيام بواجبات ومشروعات تتطلب منهم جهدًا ليس بالقليل أثناء العطلة. كما يمارسون طوال العطلة نشاطات رياضية مثل السباحة وغيرها بالمدرسة بشكل منتظم حسب برنامج العطلة المحدد مسبقًا من قبل المدرسة.
وكنتيجة ربما تكون طبيعية لهذا الجهد الدراسي خلال العام، ويحصل الطالب الياباني على أيام دراسية أكثر من أقرانه في دول أخرى، ويحصل على درجات تفوق أقرانه في الدول المتقدمة في مجالات المعرفة والمقررات الدراسية مثل الرياضيات والعلوم. ويقال أن مستوى التلميذ الياباني في سن الثانية عشرة يعادل مستوى الطالب في سن الخامسة عشرة في الدول المتقدمة. وهذا يدل على الرقي النوعي للتعليم في اليابان.
وتبعًا لإحصائيتين أجرتهما «المؤسسة العالمية من أجل تقويم التحصيل التعليمي» لاختبار مدى الاستيعاب في مجال العلوم والرياضيات، حصل تلاميذ المدارس الابتدائية اليابانية على أعلى النقاط من بين تلاميذ المدارس الأجنبية الأخرى. كما جاءت نتيجة طلاب الثانوية اليابانيين من أعلى الدرجات أيضًا.
ولكن وزارة التعليم اليابانية سعت منذ سنوات إلى تقليل عدد أيام الدراسة للتخفيف عن التلاميذ والطلاب وتشجيعهم على الاستمتاع بوقتهم. وقد استمر النقاش حول هذا المشروع سنوات حتى تقرر إنجازه بمجلس النواب على مراحل، وذلك بجعل يوم السبت الثاني والرابع من كل شهر إجازة بدلاً من الدراسة نصف يوم، ومنذ العام 2002 م بدأ تطبيق نظام الدراسة خمسة أيام في الأسبوع فقط من الاثنين إلى الجمعة، ورغم ذلك مازال الكثير من الطلاب يذهبون إلى المدارس أيام السبت لحضور النشاطات الطلابية، أو يذهبون أيام السبت للمدارس والفصول الخاصة التي تساعدهم في تنمية قدراتهم.
وكثيرًا ما يقال أن نظام التعليم الياباني قبل الحرب العالمية الثانية كان يعتمد على الحفظ عن ظهر قلب، ولكن اليوم يقال أيضًا أنه يتسم بالمرونة والذكاء والمبادرة بدرجة كبيرة، وعمومًا هذه الأشياء من الصعب قياسها، ولكن بشكل عام ربما يغلب طابع الحفظ أيضًا وخصوصًا إذا تصورنا ذلك من خلال الكم المعرفي الهائل الذي يدرسونه في مختلف المواد، وكذلك نظام الكتابة اليابانية الذي يتطلب الكثير من الجهد في حفظ مقاطع الكتابة الخاصة بهذا النظام.

  خامساً: الحماس الشديد من الطلاب وأولياء الأمور للتعليم وارتفاع المكانة المرموقة للمعلم
وحتى يتسنى لنا فهم المزيد عن نظام التربية الياباني وبخاصة هذا الاجتهاد والجد من قبل الطلاب والآباء والمدرسين، يجب أن ندرك نقطة مهمة وهي أن هذا النظام ربما يعكس الحماس الزائد للشخصية اليابانية تجاه التعلم.
هذا الحماس الزائد ربما يكون له عوامل كثيرة مثل طبيعة الشخصية اليابانية الفضولية التي تبحث عن الجديد دائمًا، وكذلك خبرة اليابانيين في استقبال الكثير من الثقافات المختلفة وتطويعها لثقافتهم. ولكن العامل الأهم ينبع من حضارة شرق آسيا بشكل عام وموقفها من التعليم.
فقد ركز الصينيون منذ القدم على أهمية التعليم، حيث كانت قوة الحكام قديمًا تقاس بما يتمتعون به من علم ومعرفة، وكان اختيار كبار موظفي الدولة أيضًا على أساس ما يتمتعون به من معارف .وهذه الأفكار هي نتاج الكونفوشيوسية للفيلسوف الصينى «كونفوشيوس»، وهي فلسفة أكثر منها ديانة ولكنها تأخذ طابع الطقوس الدينية قليلاً. وقد تأثرت بها الصين وكوريا واليابان أيضًا. وتركز هذه الفلسفة على نظام اجتماعي على أساس قواعد أخلاقية يحكمه حكام ذوو علم ومعرفة وخلق كريم، ويكون الولاء لهؤلاء الحكام والآباء ومن في حكمهم هو دعامة هذا النظام. كما تؤكد هذه الفلسفة النظام العقلاني للطبيعة وأهمية العلم والمعرفة والجد في طلبهما والعمل الشاق. وقد تكون هذه المفاهيم هي التي تقف وراء حماس الياباني الشديد تجاه العلم والمبادئ الأخلاقية أيضًا.
ونشير هنا أيضًا إلى دور المعلم في العملية التعليمية في اليابان في مختلف المراحل، حيث إن هذا الدور يعكس اهتمام اليابانيين بالتعليم وحماسهم له، ومدى تقديرهم للمعلمين، فالمعلمون حتى الآن يحظون باحترام وتقدير ومكانة اجتماعية مرموقة، ويتضح ذلك من خلال النظرة الاجتماعية المرموقة لهم، وكذلك المرتبات المغرية التي توفر لهم حياة مستقرة كريمة ويتساوى في ذلك المعلمون والمعلمات. ويتضح كذلك من خلال التهافت على شغل هذه الوظيفة المرموقة في المجتمع. فمعظم هؤلاء المعلمين هم من خريجي الجامعات ولكنهم لايحصلون على هذه الوظيفة إلا بعد اجتياز اختبارات قبول شاقة، تحريرية وشفوية. وبالطبع نسبة التنافس على هذه الوظيفة شديدة أيضًا، وهم بشكل عام يعكسون أيضًا نظرة المجتمع إليهم، ويعكسون أيضًا صورة الالتزام وروح الجماعة والتفاني في العمل عند اليابانيين. فهم إلى جانب عملهم في المدرسة وقيامهم بتدريبات ودراسات لرفع مستوياتهم العلمية، فهم يهتمون بدقائق الأمور الخاصة بتلاميذهم، كما يقومون بزيارات دورية إلى منازل التلاميذ أو الطلاب للاطمئنان على المناخ العام لاستذكار التلاميذ من ناحية، ومن ناحية أخرى يؤكدون التواصل مع الأسرة وأهمية دور الأسرة المتكامل مع المدرسة، وأخيرًا يؤكدون المقولة العربية أيضًا: قم للمعلم وفّه التبجيلا كاد المعلم أن يكون رسولاً.

  الخلاصة
بعد إلقاء هذه النظرة على أهم ملامح نظام التعليم في اليابان نجد أن هذه المميزات التي شكلت هذا النظام التعليمي والذي يعجب به الجميع، تشكل عيبًا أيضًا في بعض النظريات التربوية مثل شدة المركزية والتركيز على المعرفة والحفظ وثقل الأعباء الدراسية وجحيم الاختبارات. وبالرغم من تحقيق المساواة في التعليم والمساواة في تكافؤ فرص التعليم، إلا أن جحيم الاختبارات والتنافس الشديد والإقبال الشديد على التعلم، أوجد فوارق بين المدارس إلى حد ما، واحتدت المنافسة أيضًا للالتحاق بالمدارس الثانوية المرموقة ومن ثم إلى الجامعات الكبرى المرموقة التي توفر فرصًا مرموقة للعمل. ولذلك فإن نظام التعليم الياباني يُعتبر مميزًا عن نظم التعليم الأخرى، ويعتبر ناجحًا بالطبع وقد أدى المطلوب منه في اليابان ولكن هذا كان على حساب قيم أو أهداف أخرى لم تتحقق، وهذا ما يعترف به اليابانيون أنفسهم تجاه نظامهم حيث يشعرون أن روح الجماعة مثلاً كانت على حساب الفردية والإبداع.


منقول عن:http://www.saudiembassy.or.jp

السبت، 5 سبتمبر 2015

الجودة في التعليم ألياتها، معاييرها.



  لقد بات إصلاح منظومة التربية و التكوين من القضايا الرئيسية التي تؤرق بال المسؤولين الحكوميين في شتى أنحاء المعمور إيمانا منهم بأن تكوين الرأسمال البشري يعد الدعامة الأساسية لكل نهضة اقتصادية و اجتماعية و تنمية مجتمعية مستدامة. وقد ترجم هذا في تبني العديد من المقاربات و تجريب الكثير من وصفات الإصلاح، قصد الوصول بالتعليم إلى أعلى المستويات وانعكاس ذلك على جودة التكوين والتأهيل للموارد البشرية لتمكينها من الاندماج في محيط عالمي يتميز بالتنافسية في جميع المجالات و مواكبة التطورات و التحولات التي  يشهدها العصر مع تنامي اقتصاديات المعرفة  و تحديات العولمة.
غير أن إصلاح التعليم يحتاج إلى نظرة شمولية تهم كافة الجوانب والمجالات، نظرة تتجاوز المقاربات التجزيئية و الحلول الترقيعية و تتعدى البعد الكمي. فالإصلاح يجب أن يكون شموليا و مبنيا على النوعية و الجودة في مختلف مكونات المنظومة التربوية.  لهذا اختارت بعض الدول الرائدة في مجال التعليم اعتماد نظام الجودة في إصلاح منظوماتها التربوية، نظام أبان عن نجاعته و فعاليته في تحقيق النتائج المرجوة. فما هي إذن معايير الجودة في التعليم ؟ وما هي آليات تحقيق الجودة في إصلاح التعليم ؟
في هذا المقال سنحاول الإجابة عن هذه الأسئلة، كما سنعرض بشكل مختصر أهم معالم التجربة الفنلندية، باعتبارها إحدى أهم التجارب العالمية في مجال تحقيق الجودة في التعليم.

1- مفهوم الجودة، آلياتها و معاييرها

أولا-  مفهوم الجودة

أ- تعريف

الجودة هي نظام إداري يرتكز على مجموعة من القيم و يعتمد على توظيف البيانات و المعلومات الخاصة بالعاملين قصد  استثمار مؤهلاتهم و قدراتهم الفكرية في مختلف مستويات التنظيم على نحو إبداعي قصد تحقيق التحسن المستمر للمؤسسة.
وتشير الجودة في المجال التربوي إلى مجموعة من المعايير و الإجراءات يهدف تنفيذها إلى التحسين المستمر في المنتوج التعليمي، وتشير كذلك إلى المواصفات و الخصائص المتوقعة في هذا المنتوج و في العمليات و الأنشطة التي تتحقق من خلالها تلك المواصفات مع توفر أدوات و أساليب متكاملة تساعد المؤسسات التعليمية على تحقيق نتائج مرضية .

ب- ظهور المفهوم

ظهر مفهوم الجودة QUALITY  في ثمانينات القرن الماضي في الولايات المتحدة الأمريكية مع ارتفاع وتيرة التنافس الاقتصادي العالمي و غزو الصناعة اليابانية للأسواق العالمية. فالجودة مفهوم مقاولاتي بالأساس، يرتبط بالإنتاجية و المردودية و انتقل إلى مجال التعليم على اعتبار أن المؤسسة التعليمية هي مؤسسة لإنتاج الكفاءات و الخبرات القادرة على الابتكار و الإبداع و اللذان بدونهما لا يمكن للمقاولات الصناعية أن تطور إنتاجها و تحسن من منتوجها.

ثانيا-  معايير الجودة في التعليم   

     تختلف معايير الجودة باختلاف المجالات التي تطبقها وتبعا لأنظمة التقييم التي تراقبها، إلا أنها تلتقي جميعها في كثير من المواصفات و المقاييس التي تستند إلى مبادئ و مرتكزات أساسية تهتم كلها بجودة المنتوج النهائي مرورا بمختلف مراحل الإنتاج. والجودة في التعليم لا تخرج عن هذا الإطار إذ تهتم بمواصفات الخريجين من المدارس و نتائج تحصيلهم الدراسي عبر مختلف المراحل و العمليات و كذا القدرة على تجاوز كل المشاكل و المعيقات التي قد تعترض مسارهم عملا بمبدأ الوقاية خير من العلاج. و هذه بعض معايير الجودة في التعليم حسب بعض الدراسات الأكاديمية و البحوث العلمية المهتمة بالموضوع، على أن نعود لنتناولها بالتفصيل في معرض حديثنا عن التجربة الفنلندية:                                                                                                                              
  •      جودة المناهج والمقررات الدراسية.
  •      جودة البنية التحتية.
  •      كفاءة الأطر التربوية و الإدارية.
  •       جودة التكوين الأساسي و المستمر.
  •      التدبير الأمثل للموارد البشرية و المالية.
  •       الانطباع الإيجابي للمستفيدين من خدمات المدرسة.
  •       التحسين المستمر.
  •       نتائج التحصيل الدراسي.

ثالثا-  آليات تحقيق الجودة في إصلاح التعليم

رافق التفكير في الجودة اقتراح مجموعة من الآليات و الدعامات التي من شأنها تحسين وضع المنظومة التربوية و تجاوز مختلف العوائق التي جعلت مستوى التعليم في بلداننا العربية متدنيا. لذا فإن أي إصلاح يجب أن ينطلق من المداخل التالية:
  •    تغيير المناهج و البرامج التربوية: في هذا الصدد يجب العمل على اعتماد استراتيجية جديدة في بناء المقررات تقوم على الكفايات عوض الأهداف و على الكيف عوض الكم و على التعدد و التنوع عوض الأحادية.
  •    تحسين العرض التربوي في المدن و القرى: عملا بمبدأ تكافؤ الفرص يجب توسيع العرض التربوي و تجويده في القرى كما في المدن لإتاحة الفرصة للجميع من أجل إتمام الدراسة في أحسن الظروف، و هنا وجب الاهتمام أكثر بالبنية التحتية للمؤسسات التعليمية و مدها بكل الوسائل و الإمكانيات لتؤدي الأدوار المنوطة بها و تقدم خدمات ذات جودة معتبرة.
  •    العناية بالموارد البشرية: اعتبارا للدور الطلائعي للمورد البشري في الارتقاء بمستوى المنظومة التربوية فلابد من الاهتمام بالأطر العاملة بالقطاع سواء على المستوى المادي و ظروف العمل أو على مستوى التكوين الأساسي و المستمر.
  •    الحكامة و اللامركزية على مستوى التدبير و التسيير: وذلك عبر إرساء آليات الحكامة الجيدة و ترسيخ سياسة اللامركزية و اللاتركيز و التي ترمي إلى تقاسم المهام و اعتماد سياسة القرب و تكييف التوجيهات و السياسات التربوية مع خصوصيات كل منطقة.
  •    التمويل الكافي و ترشيد النفقات: إن أي مشروع للإصلاح يروم التحسين و التطوير يحتاج إلى تمويل كاف لتحقيق المبتغى لكن هذا لا يعني صرف أموال طائلة في أمور لا طائل منها، إذ أن الجودة لا تقاس بقيمة المبالغ و الأموال المرصودة للمشروع و إنما بما يمكن تحقيقه من نتائج على أرض الواقع بأقل التكاليف.
  •    الاستفادة من الخبرات الأجنبية: نظرا لعالمية نظام الجودة بات لزاما الاستعانة بالتجارب و الخبرات الأجنبية، خصوصا من الدول الرائدة و السباقة لتبني هذه المقاربة مع الحرص على القيام بدراسات سوسيولوجية و تاريخية كافية قبل إدخال أي تعديلات على المنظومة التربوية و ذلك لضمان توافقها مع مبادئ نظام الجودة.

2-  الجودة في التعليم من خلال التجربة الفنلندية

التعليم في فنلندا
لقد أصبحت فنلندا تحتل مركز الصدارة في مجال التعليم حسب نظام التقييم الدولي و استطاعت تحقيق نتائج باهرة تجعل المتتبع للشأن التربوي يقف مذهولا أمام إنجازات هذه التجربة الفريدة و التي تعد نموذجا في تبني نظام الجودة في التعليم . فما هي أسرار نجاح التجربة الفنلندية؟
ما من شك فيه أن الجميع أصبح واعيا بمحورية المتعلم في العملية التعليمية التعلمية و مكانته في المنظومة التربوية، لكن الوعي بهذا المعطى لحد ذاته لا يكفي للنهوض بقطاع التربية و التكوين. و لقد اختار النظام التربوي في فنلندا أن يعطي الأولوية المطلقة للمتعلم في كل مجالات الإصلاح انطلاقا من مبادئ احترام الفرد و صيانة حقوقه خصوصا حقه في تعليم ذو جودة مبني على أساس تكافؤ الفرص. و لعل شعار ̋ أن كل تلميذ يعتبر مهما ̏ خير دليل على الأهمية القصوى التي منحت لكل فرد من أفراد المجتمع في هذا البلد الذي يعتبر الإنسان مصدر ثروته الأولى.
و هذه بعض مميزات النموذج الفنلندي لتطبيق نظام الجودة في التعليم :
  • بنية تحتية مساعدة و محفزة: تعتبر المدرسة في فنلندا فضاء للحياة يحس فيه المتعلم أنه مرحب به، فضاء واسع حيث تناهز مساحة القسم الدراسي فيه 65 مترا مربعا، كما تشتمل المدرسة على أماكن متعددة ومختلفة للاستراحة و مرافق أخرى كالمكتبات و الخزانات و الملاعب الرياضية و قاعات الأنشطة و المسارح تتميز كلها بمستوى عال من النظافة و مهيأة بشكل جيد لاحتضان أنشطة المتعلمين .
  • احترام خصوصيات كل طفل: يعطي النظام التربوي الفنلندي الأولوية للمتعلم فيحترم إيقاع تعلمه خصوصا في المستويات الدنيا حيث يتم التركيز على تطوير المهارات عبر أنشطة يدوية أو فنية أو رياضية يعتمد فيها بشكل أساسي على بيداغوجيا اللعب نظرا لميل المتعلم في هذه المرحلة إلى اللعب و التسلية حتى أثناء تعلمه. كما يتم الإنصات الدائم لحاجات المتعلمين و الرصد المبكر لتعثراتهم الدراسية  قصد المساعدة على تجاوزها في حينها .
  • أقسام مخففة: قد يتفاجأ البعض ببعض المعطيات عن النظام التعليمي الفنلندي خصوصا إذا قارنها بالواقع التعليمي في بلاده. حيث يبلغ عدد التلاميذ في القسم الفنلندي 25 تلميذا على الأكثر، يتم تقسيمهم أحيانا إلى أفواج من 6 أو 7 تلاميذ يؤطرهم مدرس رئيسي و آخر مساعد. و في رياض الأطفال لا يتعدى عددهم في كل قسم 12 طفلا تسهر عليهم ثلاث مربيات و مساعدة واحدة.
  • طرق بيداغوجية حديثة: إن منطق التعلم في فنلندا يقوم بالأساس على مبدأ مساعدة المتعلم على التعلم و يقتصر دور المدرس على التنظيم و المساعدة بعيدا عن الإلقاء و الحشو. فالمتعلم يتمتع باستقلالية واسعة تمكنه من اختيار الوحدات الدراسية التي يرغب بها و بناء المنهاج الدراسي الخاص به و المساهمة في عملية التخطيط.
  • نظام تقويم مرن و محفز: لا يعتمد نظام التقويم في فنلندا على النقطة العددية الجزائية لتمييز المتعلمين – خصوصا الفئات العمرية الصغيرة – و اتخاذ قرار بالنجاح أو الرسوب. فالقانون يمنع التكرار إلا في حالات استثنائية بعد موافقة المعني بالأمر و أسرته. وهكذا تتاح الفرصة لكل متعلم أن يتحسن تبعا لإمكاناته الذاتية وإيقاعه الخاص. و حتى عندما يشرع في التنقيط بدءا من سن الثالثة عشر فإن التلميذ ينقط من 4 إلى 10، و يمنع منحه الصفر  حتى لا يشعر بالإحباط و الفشل. فالمهم هو تثمين المكتسبات عند المتعلم و تشجيعه على التعلم الذاتي بدل إبراز نقائصه.
  • تدقيق شروط ولوج المهنة: تعد مهنة التعليم في فنلندا من أرقى المهن و أعلاها شأنا لما توليه الدولة و المجتمع لها من أهمية، فلا غرابة من تشديد إجراءات انتقاء المدرسين و الإلحاح على ضرورة التوفر على مجموعة من الشروط و المواصفات، في مقدمتها الإلمام بعوالم الطفل النفسية و حب المهنة .
  • تكوين يستجيب لحاجيات المدرسين: بعد عملية الانتقاء يستفيد المترشحون لمهنة التدريس من تكوين أساسي يجمع بين ما هو نظري و ما هو عملي تطبيقي من خلال إنجاز تداريب في مدارس تطبيقية خاصة. و بالإضافة للتكوين الأساس، يشارك المدرسون في دورات تأهيلية منتظمة للتكوين المستمر قصد تجديد مؤهلاتهم و تطوير قدراتهم المهنية.
  • وسائل مادية رهن الإشارة: يتم تجهيز المدارس بكل الوسائل الضرورية لإنجاز الأنشطة التعليمية التعلمية فتجد مثلا في القسم العادي: مسلاطا و حاسوبا و تلفازا و أقراصا مدمجة إضافة إلى كتب و مراجع عديدة متوفرة بما يكفي لمشاركة كل متعلم في عملية بناء التعلمات.
  • العلاقات الإنسانية في المدرسة: يسود جو من الاحترام المتبادل بين المدرسين و الإداريين و التلاميذ يطبعه وعي بالحقوق و الواجبات تغلب عليه روح التعاون والتآزر و استعداد كل طرف لمساعدة الأطراف الأخرى، مما يخلق شعورا لدى المتعلمين بالاطمئنان و الرضا عن جودة فضائهم المدرسي. فالمدرسة ليست فقط فضاء مجهزا بالوسائل و التجهيزات لاكتساب المعارف و المهارات و إنما هي كذلك وسط للعلاقات الإنسانية النبيلة تؤثر في بناء شخصية المتعلم لتكسبه قيم الاحترام و التسامح و التعاون و التكافل .
  • استقلالية المؤسسات التعليمية و تقييم أدائها: يخول النظام التربوي في فنلندا للمؤسسات التعليمية مستوى متقدما جدا في استقلالية تدبير شؤونها و منحها كافة الصلاحيات الإدارية و المالية، و عهد إليها تكييف المناهج التعليمية مع حاجيات متعلميها و خصوصيات منطقتهم. لكن في نفس الوقت أخضعها لنظام تقييم أدائها بشكل دوري و مستمر من خلال  تعبئة استمارات عبر شبكة الإنترنت من طرف التلاميذ  وأولياء أمورهم للتعبير عن مدى رضاهم عن جودة الخدمات التي يستفيدون منها في مؤسستهم.

منقول عن:http://www.new-educ.com